جريدة الغد بتاريخ 30 أيار 2012
العولمة الثقافية هي صياغة كونية شاملة، تُغطي مختلف جوانب النشاط الإنساني؛ وهي ظاهرة جديدة تستمد خصوصيتها من عدّة تطورات فكرية وقيمية وسلوكية، برزت بشكل واضح خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي. ويأتي في مقدمة هذه التطورات انفتاح الثقافات العالمية المختلفة، وتأثرها ببعضها بعضا. والواقع أنه لم يحدث في التاريخ أن أصبحت المناطق الثقافية والحضارية، بما في ذلك أكثر المناطق الثقافية انعزالا ورغبة في الانعزال، منفتحة ومنكشفة بالقدر الذي هي عليه حاليا.
إن مثل هذا الانفتاح الثقافي يحدث للمرة الأولى في التاريخ، ولا يتضمن بالضرورة ذوبان الثقافات أو الحضارات في بعضها بعضا، بل إن العولمة الثقافية ينبغي أن تحافظ على الخصوصيات والثقافات، لأن هذا التنوع يعد مصدر ثراء للمشروع الثقافي العالمي الذي لا يمكن أن ينتعش إلا بانتعاش الثقافات الإنسانية المتعددة. لذلك، فإن الهدف النهائي للعولمة الثقافية الدولية هو خلق ثقافة عالمية واحدة، بل خلق عالم بلا حدود ثقافية.
فالعولمة في مثل هذا السياق ليست مجرد حركة للسلع، أو تقارب للمسافات وغياب للحدود، ولكنها سعي نحو ثقافة واحدة شاملة يمكن من خلالها تعزيز عالمية الاقتصاد والإعلام مثلاً. وبذلك، يمكن أن تنعكس المسألة تماماً وتكون الأولوية للثقافة باعتبارها العامل الحاسم، وتبقى عوامل الاقتصاد ثانوية حيث تساعد في تعميم ثقافة كونية، وهذه فرضية في مداها الأقصى لتأكيد موقع الثقافة في العولمة.
وفي ضوء مقولة العولمة وأهدافها، يصبح من الضروري ربط تدويل الاقتصاد بتدويل الثقافة. فالثقافة وعناصرها الرئيسة، كالفكر والأدب والفن، ومن ثم الحياة الثقافية عموماً، تظهران ميلاً واستعداداً واضحين للعولمة والتعولم. ولو تركت الثقافة لطبيعتها، وأعطيت حرية الاقتصاد نفسها، لأصبحت أسرع وأكثر عولمة من الاقتصاد والجوانب الحياتية الأخرى. ويعود ذلك إلى أن الأفكار والقيم والمفاهيم والقناعات تحمل في أحشائها دائما بذور العولمة، بمعنى الاستعداد للانتشار الحر من دون قيود، والانتقال العابر للحدود، والتوسع على الصعيد العالمي، بل إن الديانات السماوية والأيديولوجيات الرئيسة تتوجه عادة إلى كل البشرية، ولا تكترث لحدود دول أو تجمعات أو ولاءات وطنية. وما انتشار الإسلام في أرجاء المعمورة كافة، إلا دليل على عدم اعتراف العقائد والقيم الروحية والمبادئ الحياتية المثلى بالحدود الجغرافية والولاءات السياسية.
والعولمة الثقافية تعني انتقال تركيز اهتمام الإنسان ووعيه من المجال المحلي إلى المجال العالمي، ومن المحيط الداخلي إلى المحيط الخارجي. ففي ظل العولمة الثقافية، يزداد الوعي بعالمية العالم وبوحدة البشرية، وتبرز بوضوح الهوية والمواطنة العالميتين اللتين ربما ستحلان تدريجياً، وربما على المدى البعيد محل الولاءات الوطنية. هناك من يرى أن العولمة تحمل في طياتها نوعاً أو آخر من الغزو الثقافي، أي من قهر الثقافة الأقوى للثقافات الأضعف منها، لأن العولمة الثقافية لا تعني مجرد صراع الحضارات أو ترابط الثقافات، بل إنها توحي أيضا باحتمال نشر الثقافة والقيم السائدة في المجتمعات المهيمنة؛ إذ إن القوى المهيمنة على التقنية والإنتاج الإعلامي على المستوى العالمي تسعى نحو تشكيل نمط محدد من الوعي الثقافي، وفرض نماذج وفلسفات غربية من خلال إنتاج المواد الإعلامية والاتصالية وتوزيعها واستهلاكها.
فإذا كانت العولمة تعمل، بحسب ما يرى كثيرون، على إقصاء الثقافات المحلية وتهميشها، فإن هذا لا يعني أنها تسير دون مقاومة وردود فعل مضادة، بل العولمة تواجه تيارات شعبية عريضة تسعى إلى تأكيد الخصوصية الثقافية، والحفاظ على الهوية وإحياء التراث. لذلك، فالعلاقة مع العولمة تحتاج إلى إعادة نظر تعي العولمة كظاهرة شاملة والتعامل معها ككل. ولا يعني هذا القبول غير النقدي لها، ولكنْ استخدام العقل في فهم ما يدور على الساحة الثقافية الدولية.
yacoub@meuco.jo