جريدة الدستور بتاريخ 14 شباط 2012
يحظى البحث العلمي بمكانة محوريّة في اقتصاد الأمم والشعوب، فبالإضافة إلى كونه مصدراً للعلم والمعرفة، فهو أحد المعايير الأساسية التي تقاس بها تقدم الجامعات. ويغلب على البحوث العلميّة في الجامعات العربيّة طابع الجهود الشخصيّة لا الطابع المؤسّسي إذ يُعدّها أعضاء هيئة التدريس في الجامعات للترقية الأكاديمية، ويعدها طلبة الدراسات العليا للحصول على درجة علمية، لذا تغلب عليها طابع الضعف للنقل الكثير من المراجع والمصادر، ولا ترتبط بشكل دقيق بالاحتياجات الفعلية لقطاعات المجتمع المختلفة، ويندر فيها الإبداع. كما يلاحظ أن كثيراً من أعضاء هيئة التدريس ينقطعون عن إجراء البحوث بعد حصولهم على رتبة الأستاذية، في حين يفترض أن يضاعفوا انتاجهم العلمي نظير توسع خبراتهم.
إن الأصالة والتميز تعدان من السمات الرئيسة للبحث العلمي، فالأصالة شرط أكيد للانتاج والبحث المميز، وسمة رئيسة للإسهامات الرائدة في شتى المجالات والتخصصات من أجل تحقيق التنمية الشاملة المستدامة، ويُعد الإبداع الجسر الرئيس لبلوغ الأصالة لأنه يتيح للباحث التحليق في فضاءات جديدة تمكّنه من انتاج المفيد في مجالات التنمية المتنوعة.
إن غياب الأصالة عن معظم البحوث العلمية يعود إلى الضغط المفرط الذي تضعه معايير الترقية العلمية لمعظم الأكاديميين، فكانت النتيجة أن انصب الاهتمام على الكمية على حساب النوعية، مما دفع المبدعين من أعضاء هيئة التدريس إلى الخروج القسري من دائرة الإبداع ليلحقوا بركب زملائهم في الترقيات العلمية، ويجب أن تركز الجامعات على الكيف في الإنتاج العلمي وليس الكم، فلا تُقيم الأبحاث الأصيلة والتقليدية بالقيمة نفسها. كما وتعتمد الأصالة في الأطروحات العلمية على المشرف أحياناً، فقد يرفض المشرف أي دراسة أصيلة قد يقترحها الطالب المبدع تلافياً للمصاعب والعقبات التي قد تظهر أثناء إنجازه البحث، والتي قد تحتاج إلى أصالة في التفكير لحل المشكلة كونها غير مسبوقة بأبحاث في المجال نفسه، والعكس صحيح بمعنى إذا كان المشرف مبدعاً يسعى إلى وضع خطّة بحثيّة أصيلة علمياً، وبالتالي سيدفع الطالب ويشجعه إلى مثل تلك الأبحاث غيرالمسبوقة ولأن صفة المبدع السعي إلى كل جديد وغير تقليدي.
لذا، أصبحت الحاجة ماسّة جداً إلى بناء أبحاث علميّة أصيلة وضرورة مُلحّة يفرضها واقع العصر الذي يتّسم بالانفجار المعرفي والتقدّم التكنولوجي، فالتقدّم الذي حقّقته الدول المتقدّمة كان نتاج ومحصّلة لعدد من الظروف التي أسهمت في تأهيله وتطويره، ويبقى اللحاق بالركب منوطاً بتنمية الإبداع الذي لم يعد مقصوراً على البناء من العدم، فكثيراً ما يكون في صورة إعادة تنظيم المعرفة وتوظيفها بطريقة مبتكرة، ويتم زرع الأصالة من خلال بناء عقلية الباحث وشخصيته بحيث تكون عقلية تنقد المعرفة التي تتلقاها ولا تقتصر على نقلها، وتستقل برأيها ولا تنساق خلف أفكار الآخرين، عقلية قادرة على تأمل الأمور من زوايا متعددة وتتبنى رؤى متميزة، شخصية منفردة تبتعد عن النمطية والمجاراة ولديها حساسية شديدة للمشكلات وجوانب النقص والثغرات، وتقوم بصياغة الفرضيات والتنبؤ بالحلول والتوصل إلى النتائج، تمتلك هذه الشخصية المثابرة وروح التحدي وتحب المعرفة وتحرص على الاستزادة منها، قادرة على اتخاذ القرار الصائب وحل المشكلات بطريقة غير مألوفة.
وبعامة، فالبحث العلمي أصبح تعبيراًُ عن طموحات الأمم وتطلعاتها المستقبليّة، وأصبح تقدّم الأمم يقاس بمقدار تقدمها العلمي والتكنولوجي، وما لديها من الابتكارات وتراكمات الخبرة العملية والتكنولوجية كوسائل لديمومة الحياة المعاصرة بأبهى صورها، وعدّه أحدهم من العوامل التي تجعلها تتبوأ مكاناً لائقاً ومصاناً من التحديات التي تحدق بالأمم، وكذلك المقياس المعتمد لقوة البلدان وتقدمها. لذا يجب أن يكون الهدف الاستراتيجي للبحث العلمي بالنسبة للدول العربية معبراً عن طموحاتها في البناء والنمو القومي، وتجديداً لدور الأمة المعروف تاريخياً في العطاء والتقدم الحضاري، وتأكيداً لروح الذات العربية الخيرة ودورها الإنساني لا بد أن يكون البحث العلمي أيضاً ركيزة مهمة تدفع بعجلة التقدم والتنمية في الوطن العربي لتحقيق حياة أفضل.
yacoub@meuco.jo