اراء حرة مجلة الإدارة اليوم 2019/12
في بداية العام الحالي دعتني كلية الصيدلة بجامعة الشرق الأوسط الأردنية لافتتاح موسمها الثقافي بإلقاء محاضرة بعنوان ” تحليل المفاهيم وتوليف العلاقة بين الابتكار ، والاختراع ، والإبداع ، والريادة ” وغاية المحاضرة هي إزالة الخلط بين مفاهيم العناوين أو المصطلحات الأربعة ، لما يسببه ذلك من ضعف في استثمارها والاستفادة منها من الناحية العملية .
ولفت انتباهي مداخلة أحد الطلبة في نهاية المحاضرة عن ” الموهبة ” مستشهدا بالقدرات الذاتية لعدد غير قليل من المخترعين ، خاصة أولئك الذين لمعت أسماؤهم في فضاء ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات ، الأمر الذي أثار في ذهني تساؤلا ، هل الموهبة شرطا ضروريا لتوليد الابتكار والاختراع والإبداع والريادة ، أم أنها ” بعد خامس ” يتوجب إضافته عند الحديث عن البيئة الحاضنة لتلك العناوين ؟
أدركت بعد ذلك أن في الجواب قدرا من التعقيد ، حين وجدت في الأبحاث والدراسات التي اطلعت عليها خلطا آخر بين الموهبة ، والذكاء ، والتفوق ، والعبقرية ، ولعل الجامع المشترك بينها هو أنها تخضع جميعها لقياسات علمية ، واختبارات ذهنية وعقلية ، تحدد مستوياتها التي تتجاوز بالطبع المتوسط العام بكثير .
وأيا كانت الفوارق بين تلك العناوين أو المصطلحات ، فإن ما نتحدث عنه يشبه إلى حد ما عدة نجوم تدور في فلك علوي واحد ، لا يكفي أن نراها بوضوح ، ولكننا نريد أن نعرف أثرها في حياتنا ومستقبل أجيالنا ، وهنا نلجأ للتعريفات التي قد نهتدي بها إلى غايتنا المنشودة للنهوض بالحياة الإنسانية ، والارتقاء بالبشرية جمعاء ، وليس بعيدا عن تلك الغاية ، ما نتطلع إليه نحن في بلادنا العربية من تطوير وتحديث ، وازدهار ونماء ، نفتح الآفاق الرحبة أمام أبنائنا وبناتنا كي يساهموا في إحداث نقلة نوعية في مسيرة دولنا ، متجاوزين العوائق والعراقيل والعثرات.
ولأن المحاضرة التي أشرت إليها مخصصة لطلبة الصيدلة فقد استعنت بمادة ” البنسلين ” أنموذجا يدلل على الفوارق والمراحل معا ، منذ أن ابتكر العالم الفرنسي لويس باستور تصورا ما لإمكانية القضاء على ميكروب الجمرة الخبيثة القاتلة للإنسان ، عندما لاحظ أن ذلك الميكروب لا يستطيع النمو بوجود العفن في الجو أو في أواني المختبر ، ثم كيف اخترع العالم الشهير الكسندر فلمنخ آلية لاستخلاص مادة البنسلين من عفن الخبز ، ومن ثم كيف أبدع العالمان إرنست تشين ، وهوارد فلوري في استخراج البنسلين وتحضيره لعقار أنقذ البشرية من ذلك الميكروب اللعين ، كما تجلت الريادة في التركيز على استثمار علاقة الابتكار بالاختراع بالإبداع ، وتحمل المخاطرة لاستخدام البنسلين وتسويقه كمنتج دوائي .
أعود إلى موضوع الموهبة التي وصفتها الجمعية الأمريكية القومية للدراسات التربوية قبل ما يزيد عن ستين عاما كتعريف للطفل الموهوب بأنه ذلك الطفل الذي يظهر امتيازا مستمرا في أدائه في أي مجال له قيمة ، ووصفه خبراء ومختصون آخرون بأنه الشخص الذي تؤهله طاقاته العقلية للوصول إلى مستويات مرتفعة من التفكير الإنتاجي والتقويمي على نحو يسمح له في المستقبل بالوصول إلى مستويات مرتفعة من القدرة على حل المشكلات والابتكار والاختراع والإبداع والريادة .
إذا كانت الأهمية كلها تكمن في الفائدة المتوقعة من التميز أو التفوق العقلي ، فهل تتحقق تلك الفائدة من دون كيان مؤسسي أو معنوي ، الجواب لا بالطبع ، فكل أولئك الذين أنجزوا مراحل عقار البنسلين كان يعملون في مختبرات بكل ما يتوفر فيها من إمكانات في ذلك الحين ، وقد تكون الأسرة الصغيرة حاضنة للمواهب ، ومؤسسات التعليم بجميع مراحله ، ومؤسسات القطاعات المختلفة العامة والخاصة ، ولكن هناك فارق كبير بين أن يخترق الموهوب والمبتكر والمخترع والمبدع والريادي الصفوف من تلقاء نفسه ، وبين أن تتوفر أجواء وأدوات ذلك كله تفتح السبل أمام المتحمس لتميزه ، وتأخذ بيد المتردد إلى الأمام ، وتستثمر في هؤلاء جميعا كي يتقدم المجتمع كله نحو طموحاته ، والحياة الفضلى .
الأردن واحد من الدول العربية التي تنبهت في وقت مبكر لأهمية وضع أطر عملية للتفوق والتميز ، ذلك أنه بلد يستثمر ويركز كثيرا على الإنسان ليتغلب على شح موارده الطبيعية ، ولعل قطاع التعليم العام والعالي هو القطاع الذي يحظى بالاهتمام الأول ، وقد دلت العديد من الدراسات والاحصاءات لمؤسسات ومراكز دولية متخصصة على أن مستوى ونوعية التعليم في الأردن يحتلان منزلة متقدمة في سلالم التصنيفات الصادرة عنها .
أنا أحد أعضاء مجلس أمناء جائزة الملكة رانيا للتميز التربوي ، وهي مؤسسة أنشئت عام 2005 ، وتُعنى بتقدير التربويين ، وتحفيز المتميزين والمبدعين ، ونشر ثقافة التميز والإبداع وتعميق أثرها ، والمساهمة في إنتاج المعرفة ، وفي خط مواز هناك جائزة المعلم المتميز ، وجائزة المرشد التربوي ، وجائزة الملكة رانيا للريادة التي تقدم دعما اقتصاديا لطلبة الجامعات والمخترعين وأصحاب المبادرات الشخصية ، إلى جانب مركز تكنولوجيا التعليم والمعلومات.
لا يتسع المقام هنا للحديث عن جميع المؤسسات والجمعيات والمراكز المعنية بالابتكار والاختراع والإبداع والريادة في الأردن ، لكن ارتفاع درجة الاهتمام إلى مستوى القرار السياسي سنجده على سبيل المثال في جائزة الملك عبدالله الثاني للتميز التي تُعنى بالمؤسسات لكي تبلغ أرفع مراتب الأداء ، وجائزة الملك عبدالله الثاني للإنجاز والإبداع الشبابي ، واسمها يدل عليها ، فضلا عما يقدمه مركز الملك عبدالله الثاني للتصميم والتطوير ويعرف اختصارا “كادبي ” ويتبع للقوات المسلحة الأردنية – الجيش العربي ، وتم إنشاؤه عام 1999 ، أي العام الذي تولى فيه جلالة الملك سلطاته الدستورية ، ليعمل على تصميم وتطوير وتعديل الأنظمة الدفاعية والأمنية باستخدام التكنولوجيا الحديثة ليلبي حاجات الأردن والعديد من دول العالم فهو من هذه الناحية مشروع اقتصادي يشكل حاضنة رحبة للمبتكرين والمخترعين والمبدعين الأردنيين .
لا شك أن القطاع العام والقطاع الخاص في الأردن يتشاركان في هذا التوجه القوي ، والجامعات الحكومية والخاصة جعلت من الريادة ودعم التفوق والتميز وتنمية المهارات هدفا رئيسا في إستراتيجياتها ، ففي جامعة الشرق الأوسط التي أرأس مجلس أمنائها يوجد العديد من المراكز ذات العلاقة ، من بينها مركز الأعمال الريادية الذي يتبنى الأفكار الإبداعية لطلبة الجامعات والخريجين ، وأبناء المجتمع المحلي ليحولها إلى مشاريع ريادية منتجة ، فضلا عن ابتعاث طلبة الجامعة الأوائل إلى جامعات ومراكز بحثية دولية مرموقة .
وخلاصة القول نحن في العالم العربي بأشد الحاجة إلى الأفكار الذكية ، والاستثمار فيها ، وقد حان الوقت لنقيم القاعدة العريضة التي تستوعب الطاقات الكامنة في شبابنا ، تلك الطاقات التي لم تجد مكانا لها بيننا في الماضي القريب ، فراحت تبدع في أهم مراكز الأبحاث العالمية ، والأمثلة على ذلك نعرفها جميعا .
منذ أن تعرفت على رؤية ورسالة وغايات وأهداف المنظمة العربية للعلوم الإدارية وأنا فخور بها متحمس لها ، وأملي أن يفتح هذا المقال مجالا للتركيز على كيفية إدارة الأبعاد الخمسة حين توضع إستراتيجيات وخطط الإدارة الحديثة في عالمنا العربي .
الدكتور يعقوب ناصر الدين
أمين عام مجلس حوكمة الجامعات العربية