جريدة الغد، الاثنين 2023/03/20
ذكرت في مقالي السابق أنه قد حان الوقت لتغيير قواعد النقاش من أجل فهم العملية السياسية التي يخوضها الأردن على أساس قانوني الانتخاب والأحزاب الجديدين ، ذلك أن مجموعة الأفكار والآراء التي تحكم وجهات نظر أغلبية من المعنيين بالشؤون السياسية ما زالت أسيرة إرث حزبي يعود أصله إلى فترة نشوء الدولة وبداياتها المؤسسية ، ومخاضاتها الوطنية منذ خمسينيات القرن الماضي ، مرورا بمراحل إعادة التشكيل الوطني وفق الظروف المحلية والإقليمية والدولية ، والتغيرات التي طرأت على توجهات المجتمع وأولوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
استخلاص النتائج لا يجوز أن يقودنا إلى طريق مسدود ، بل إلى ضرورة فهم التطورات السياسية ضمن مراحلها ، وأسباب تراجعها أو تقدمها في السياق التاريخي ، فالأحزاب التي نشأت مع تأسيس الدولة حملت شعارات الاستقلال التام وبناء الدولة على منظومة المبادئ التي حملها المشروع النهضوي العربي ، وتبعتها أحزاب ترفع شعارات الوحدة العربية ، والأيديولوجيات الأممية ، وغيرها مما ساد في الأوساط السياسية متأثرة بنظريات وتيارات كانت تشكل في حد ذاتها أنماطا جديدة من الاتجاهات الفكرية والثقافية المبهرة في ذلك الزمان .
جاءت تجربة الأحزاب الأردنية الوطنية على موعد مع التحول الديمقراطي في ثمانينيات القرن الماضي ، وأدت بسبب كثرة عددها وقلة تأثيرها إلى حالة من الجمود السياسي ، لكنها أبقت على مفهوم الحياة الحزبية قائما ، وليس شاهدا نستحضره في كل مناسبة لكي نحكم على التجربة ماضيا وحاضرا ومستقبلا ، خاصة وأن معظم تلك الأحزاب تعيد الآن ترتيب أوضاعها لتكون جزءا من العملية السياسية الجديدة !
قواعد النقاش لا بد أن تضع معايير صحيحة عند البحث والتحليل لمرحلة دقيقة من تاريخ الأردن ، وهو يحافظ على حيويته ، ويثبت عناصر قوته وحضوره في التوازنات الإقليمية والدولية ، في وقت يقف فيه العالم تارة على حافة حرب عالمية ثالثة ، وتارة على حافة انهيار اقتصادي ومالي عالمي ، وأخرى على حافة تغير مناخي ، وانتشار وبائي ، وغير ذلك من مؤشرات تدور كلها في فلك اللا يقين ، الأمر الذي يفرض علينا صيانة قواعد بيتنا الداخلي لكي يكون أكثر قوة ، وأشد تحملا للتحديات والمخاطر والتهديدات ، وعلى هذا الأساس جاءت عملية التحديث السياسي والاقتصادي والإداري لتكون جزءا مهما في إعادة تشكيل الحالة الأردنية ضمن وضع استثنائي بكل المعايير !
تقتضي قواعد النقاش الجديدة أن ندرك بصورة واضحة مفهوم (الحزب البرامجي) الذي يشكل العمق الحقيقي لتجربتنا الحزبية الحديثة ، لكي نميز بين العمل الحزبي كفعل نضالي أيديولوجي ، والعمل الحزبي كفعل نهضوي شامل ، يجمع بين صفوفه السياسيين ليتعاملوا مع السياسية ، والاقتصاديين ليتعاملوا مع الاقتصاد بجوانبه ومجالاته العديدة ، وكذلك المفكرين والمثقفين والأطباء والمهندسين والطلبة وغيرهم من العاملين في القطاعات جميعها ، ليكون اهتمام الحزب وخطابه منصبا على الشؤون العامة كوحدة واحدة ، يعبر عن موقفه بناء على الخبرة والمعرفة والحقائق وليس الأهواء أو الانطباعات ، أو المزايدات .
مرة أخرى نحن في بداية الطريق ، وقواعد النقاش الجديدة تلح علينا كي نجد الجوامع المشتركة بين النخب ، لنقارب بين وجهات النظر ، ونقيم مشروعنا الوطني على أساس المتفق عليه ، بدل المختلف عليه ، بعيدا عن الاتهام والحرد والتجريح والسوداوية ، وسوء الظن !