جريدة الغد، الاثنين الموافق 2024/2/19
غبار هذه الحرب كتمت الأنفاس، وسدت الآفاق، وقطعت السبل، وشتت الرؤى والأفكار فأصبح الرأي ونقيضه متساويين في النتيجة والحصيلة، وقد ظلت معظم الأسئلة بلا أجوبه، والأسوأ من ذلك هو انسداد الفرصة أمام الموضوعية للإمساك بالحقيقة أو طرف الحقيقة !
حتى على المستوى الرسمي في أميركا وفي أوروبا تتبدل التصريحات وتتغير، وحتى في إسرائيل تدب الخلافات بين القيادات السياسية والعسكرية وفي جميع الأوساط، بحيث أصبح من العسير تشكيل رأي ثابت بشأن احتمالات الموقف ومآلاته، كل ذلك نتيجة حرب الإبادة التي تشنها على الشعب الفلسطيني، ومضيها في مشاريعها الظاهرة والخفية للسيطرة الكاملة على الأراضي المحتلة وتهويدها، وتدمير وتهجير أهلها، متحدية القوانين والمعاهدات والاتفاقيات والقرارات الصادرة عن الأمم المتحدة ومجالسها ومنظماتها ومؤسساتها .
ذلك جزء من الصورة الأوسع والأشمل عندما يتعلق الأمر بأصل الصراع القائم على مدى خمسة وسبعين عاما، تعرض خلالها الشعب الفلسطيني لكل أصناف الظلم والقهر والعدوان حتى إذا ما وقعت أحداث السابع من أكتوبر تبينت اتجاهات إسرائيل على مستوى القيادتين السياسية والعسكرية ولدى أغلبية عالية جدا من المجتمع الإسرائيلي، لإزالة غزة من الوجود وتهجير أهلها من جانب، وأهل الضفة الغربية من جانب آخر، وعدم القبول بأي حل من شأنه منح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة، وفي مقدمتها حقه في دولته المستقلة على أرضه بعاصمتها القدس الشريف .
الآن بإمكان الأردن أن يشرح موقفه بوضوح لكي يلتقط الجميع نقاط الحكمة والخبرة وبعد النظر في كيفية التعامل مع هذه الحالة الاستثنائية في مجمل الصراع، سواء في إطاره الثنائي الفلسطيني الإسرائيلي، أو إطاره الأوسع الصراع العربي الإسرائيلي، وفي الحالتين تظل علاقة الأردن بالقضية الفلسطينية الأكثر قربا واتحادا وتفاعلا، فكانت كل المواقف التي عبر عنها جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين قبل تلك الأحداث وبعدها مبنية على فكرة تعطيل وإبطال المشروع الإسرائيلي، وتحميله المسؤولية الكاملة عن الجرائم التي ارتكبها بحق المدنيين في غزة، وتحميل المجتمع الدولي مسؤولية الدفاع عن الشرعية الدولية، بل الدفاع عن النظام العالمي للدول، وصيانة الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم .
لا بد من إمعان النظر في طبيعة المحادثات التي أجراها جلالة الملك مع الرئيس الأميركي بايدن ومع إدارته، وتلك التي جرت مع قادة بريطانيا وكندا وفرنسا وألمانيا، وعلى هامش أعمال الدورة الستين لمؤتمر ميونيخ للأمن من أجل فهم الأسلوب الذي ينتهجه جلالته في حشد موقف دولي مبني على مبدأ المسؤولية المشتركة عن الأمن والسلام والتعاون الدولي من ناحية، وعلى التدخل الفوري لوقف الحرب، وإدخال المساعدات وإعادة البناء، وإيجاد أفق سياسي يؤدي إلى منح الشعب الفلسطيني حقوقه المشروعة من ناحية ثانية .
حتى في مسألة حجب الدعم المالي عن الأونروا ودعوة الدول التي قطعته بسبب اتهامات لا دليل على صحتها، فقد عرض هذا الأمر من زاوية إبطال محاولات إسرائيل القضاء على تلك المنظمة التي أنشئت في أعقاب النكبة الفلسطينية الأولى لأنها تمثل جانبا من تلك الحقوق وخاصة حق العودة، وتأمين ظروف إنسانية مناسبة من رعاية وصحة وتعليم وتشغيل .
لقد حدد جلالة الملك أهداف مهمته الحاسمة هذه بناء على تحليل دقيق للوضع الراهن، وما قد يسفر عنه من نتائج كارثية، وسبق أن سمع قادة العالم تحذيراته من كل ما يرونه ماثلا أمامهم والآن يرمي لهم طوق النجاة لكي يأخذوا رأيه وموقفه على محمل الجد، وإلا فإن تحذيراته من أن تمادي إسرائيل في جرائمها، وفي تحديها للقوانين الدولية، ولمحكمة العدل الدولية، وأن المزيد من التباطؤ أو التواطؤ قد يذهب بالجميع – مجبرين أو مختارين – إلى حرب إقليمية دولية، وإلى كارثة حقيقية، تخلق من هذا الصراع صراعات لا حصر لها !