جريدة الغد، الإثنين الموافق 2024/11/25
في واقع مضطرب وغير مستقر كالذي تعيشه المنطقة تكتسب بعض المصطلحات قيمة استثنائية وعمقا استراتيجياً عندما يتعلق الأمر بموقف دولة أو مصير أمة أو توضيح رؤية وسط ضباب كثيف، بما يشبه التعريف عن الذات بذكر الاسم والأصل والهوية.
بفقرة واحدة متكاملة حدد جلالة الملك عبدالله الثاني في افتتاح الدور العادي لمجلس الأمة العشرين عناصر بطاقة التعريف الخاصة بالأردن قائلا (نحن دولة راسخة الهوية، لا تغامر في مستقبلها وتحافظ على إرثها الهاشمي وانتمائها العربي والإنساني، فمستقبل الأردن لن يكون خاضعا لسياسات لا تلبي مصالحه أو تخرج عن مبادئه) وكأنه أراد بهذا المعنى وضع عنوان واضح كل الوضح للدولة الأردنية التي تعيش تطورات الأوضاع المحيطة بها بكل أبعادها ومخاطرها واحتمالاتها، بينما تطرح العديد من السيناريوهات بشأن مستقبل ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير!
أن تكون هوية الأردن راسخة فذلك يعني أنها متصلة بمراحل زمنية طويلة من الاستقرار والثبات، وأنها مستندة في جوهرها إلى منظومة من القيم والمبادئ والمثل العليا مما يمنحها القدرة على الصمود والتغلب على العقبات والتحديات والضغوط، وهي بالطبع واضحة ومعروفة بالنسبة للآخرين وتحظى بالاحترام والثقة التقدير، من خلال تميزها أو فرادتها وموقفها الأخلاقي والإنساني المشهود له من الخصوم والأصدقاء على حد سواء!
مرة أخرى نحن أمام فقرة غاية في الأهمية، خاصة وأن التعريف بالهوية أتبعه التعريف بالأصل الأردني الهاشمي العربي والإنساني، وبالتالي فإن الأردن لا يغامر بمستقبله، ولا يقبل بأن تفرض عليه سياسات تتعارض أو لا تستجيب لمصالحه أو لا تتوافق مع مبادئه، أي قيمه وأخلاقه التي جعلت منه بلدا ينادي باحترام ميثاق الأمم المتحدة والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي صيغت من أجل إحلال الأمن والسلام والتعاون والاستقرار، وليس أدل على ذلك من مشاركته الدائمة في قوات حفظ السلام في أنحاء مختلفة من العالم، فضلا عن مبادراته الفورية لمساعدة المنكوبين في كل مكان، بمعنى أن جميع المبادئ التي يؤمن بها قد تم اختبارها على أرض الواقع لتقترن الشعارات بالأفعال.
لا شك أن الإطار العام هو إطار استثنائي، فعلى الصعيد الوطني يأتي الخطاب السامي أمام أول برلمان يجسد المرحلة الأولى والأكثر أهمية من مشروع التحديث السياسي، ويختبر قدرة الأحزاب البرامجية على إحداث الفرق في العمل البرلماني، سواء في مستوى التشريع أو الرقابة أو النقاش العام حول قضايا الوطن والمواطن، وأما على الصعيد الإقليمي فقد جاء التأكيد من جديد على موقف الأردن ليكون أكثر تمسكاً بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني رغم صعوبة الأوضاع التي تفجرت منذ السابع من أكتوبر العام الماضي من غزة، وتفاقمت بحرب الإبادة التي ترتكبها إسرائيل في قطاع غزة وفي جنوب لبنان، وبالاعتداءات المتصاعدة على الضفة الغربية، والانتهاكات المتزايدة للمقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وتوسع الصراع ليشمل العراق وسورية واليمن وايران، فالتمسك بهذا الموقف من شأنه أن يذكر الجميع أن القبول بقرارات الشرعية الدولية ليس اختيارياً أو مزاجياً، فالقرارات الأممية يجب أن تحترم، وفي ذلك مصلحة لجميع الدول والشعوب، وإلا فعلى المجتمع الدولي أن يهيئ نفسه لما هو أكثر سوءا إذا قبل بهذا التمرد وتعامل معه على أنه مجرد تطور مقلق أو إذا وقف مكتوف الأيدي أمام المأساة المروعة التي يتسبب بها جيش الاحتلال الإسرائيلي!
ذلك هو سؤال الهوية في هذه المرحلة الصعبة جداً، والجواب عليه هو مسؤولية عامة يحمل أمانتها كل فرد باسمه وعنوانه، وكل جماعة بفكرها ونهجها ومقاصدها، وكل حزب بمبادئه وبرامجه واسهاماته، وكل مؤسسة بواجباتها ومهامها ودورها في تحقيق تقدم الدولة وازدهارها وأمنها واستقرارها وضمان مستقبل أجيالها، فالهوية الراسخة في هذه الحالة تعنى الجذور العميقة الممتدة في السنين، والحصون المنيعة العصية على الطامعين.