جريدة الدستور بتاريخ 26 كانون الأول 2011
يُعدّ مصطلح الحاكميّة من أول المصطلحات التي تم استخدامها للدلالة على مفهوم «Governance» وهو مشتق من الجذر اللغوي حَكَمَ، ولقد لقي هذا المصطلح استحساناً في بلاد الشام ومازال مستخدماً فيها، وقد استخدمته وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الأردنيّة في خطّتها الاستراتيجية الوطنية (2007-2012). ولكن هذا المصطلح تعرّض لبعض الانتقادات من جهات متعدّدة، فحلَّ محلّه مصطلح الحوكمة الذي لقي استحساناً في شمال إفريقيا.
ثمّة انتقادات أخرى جاءت من دول الخليج حيال طرق استخدامه، وبناءً على ذلك تم اقتراح مصطلحات أخرى منها الحُكْم الصالح الذي يُترجم حرفياً إلى «Virtuous governing» بالإنجليزيّة، ولكن تعرّضت هذه الترجمة إلى انتقادات من رجال الدين، ورجال السياسة. وبعد ذلك تم تداول مصطلح آخر وبشكل واسع هو الحكم الرشيد «Wise governing» ومع أن هذا المصطلح يتضمن لفظة حُكْم التي تشير إلى ممارسة السلطة، إلا أنه تعرّض لانتقادات من علماء الدين ومن العلماء العلمانيّين. وبذلك استمر ابتكار مصطلحات أخرى ناشئة عن تيارات دينيّة وسياسيّة مختلفة منها الحوكمة، التي تُعد الترجمة المختصرة لمصطلح «Corporate governance»، في حين أن الترجمة العلمية لهذا المصطلح التي اتفق عليها هي «أسلوب ممارسة سلطات الإدارة الرشيدة».
وقد تعددت التعريفات المقدمة لهذا المصطلح، بحيث يدل كل مصطلح على وجهة النظر التي يتبناها مُقدّم هذا التعريف. وعلى سبيل المثال لا الحصر تعرّفه مؤسسة التمويل الدوليّة «IFC» بأنه «النظام الذي يتم من خلاله إدارة الشركات والتحكّم في أعمالها».
في حين تعرّفه منظّمة التعاون الاقتصادي والتنمية «OECD» بأنه «مجموعة من العلاقات فيما بين القائمين على إدارة الشركة ومجلس الإدارة وحملة الأسهم وغيرها من المساهمين».
وشاع استخدام مصطلح الحوكمة بعد المعارضة التي لقيها، وبخاصة بعد أن وافقت عليه جامعة الأزهر في القاهرة. وقد استخدم هذا المصطلح بشكل كبير بعد إضافة لفظة الشركات إليه مما ولَّد عبارة حوكمة الشركات «Corporate governance» أو «The governance of Companies» وأخيراً حوكمة الجامعات «Universities governance».
ومن المصطلحات الأخرى التي تم استعمالها للدلالة على مصطلح الإدارة الرشيدة؛ «good governance» (إذ يأخذ) هذا المصطلح بعين الاعتبار التحفظات المتعلقة باستخدام لفظة حُكْم، ويقلل من حدّة مفهوم رُشد أو رَشيد المثير للجدل على الصعيد السياسي، وذلك من خلال ربطه بمفهوم الإدارة بدلاً من الحُكْم.
وتفادياً للانتقاد الذي قد يثيره التخلي عن البعد السياسي لإدارة الحكم في مفهوم «governance» يمكن استخدام عبارة الإدارة الرشيدة مع عبارة إدارة الحُكْم للإشارة إلى «governance»، مما يعيد مفهوم الحُكْم فينطوي عليه ضمنياً المقابل العربي لعبارة «good governance».
ومن المصطلحات الحديثة التي جاءت لتحل العديد من الابتكارات السابقة مصطلح إدارة الحكمة؛ إذ إنّ الإدارة الصحيحة والقويمة لأي عمل مهما كان صغيراً أو كبيراً تحتاج إلى حكمة (فمن أوتيها أوتي خيراً كثيراً)، ولا يُمكن إدارة أي مؤسّسة أو شركة إلاّ بالحكمة، والحكمة أن يضع كل شيء في مكانه. والحكمة مصدر من الإحكام، وهو الإتقان في قول أو فعل، وإدارة الحكمة هي المقدرة والكفاءة على الحكم على الأمور من حيث صلاحها وفسادها، وقد قسّم ابن القيم الحكمة في كتابه «مدارج السالكين»، فجعلها في نوعين: حكمة علمية وهي الاطلاع على بواطن الأشياء، ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبّباتها خلقاً وأمراً، قدراً وشرعاً وهي مبنية على العلم، والإدراك، والفراسة، وحسن الفهم، وبُعد النظر، وسعة الإطلاع، وحكمة عملية: هي وضع الشيء في موضعه وهي مبنية على استعمال الحكمة بإنفاذ العدل، وإحقاق الحق، ونقل الصواب، وتقع على ثلاث درجات: الأولى: أن يُعطي كل شيء حقّه. والثانية: أن تشهد نظر الله في وعده، وتعرف عدله في حكمه، وتلحظ برّه في نفعه. والثالثة: البصيرة بالاستدلال، وهي أعلى درجات العلم، قال تعالى «يؤتي الحكمة من يشاءُ ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلاّ أولو الألباب» سورة البقرة الآيــة (269).
yacoub@meuco.jo